عدد الفقراء في الولايات المتحدة: تحليل شامل للوضع الاقتصادي والاجتماعي

يشكل موضوع الفقر في الولايات المتحدة قضية معقدة ذات أبعاد متعددة تتداخل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. على الرغم من أن الولايات المتحدة تعتبر من أكبر الاقتصاديات في العالم، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة في تقليل معدلات الفقر بين سكانها، إذ يعيش ملايين الأمريكيين تحت خط الفقر الرسمي أو بالقرب منه. هذا المقال يستعرض بالتفصيل أرقام الفقر الحالية في الولايات المتحدة، تعريفات الفقر، العوامل المؤثرة، الفئات الأكثر تضرراً، السياسات الحكومية المتبعة، وتأثيرات الفقر على المجتمع الأمريكي.

تعريف الفقر في الولايات المتحدة

الفقر في الولايات المتحدة يُقاس عادة باستخدام “خط الفقر الفدرالي” (Federal Poverty Line)، وهو معيار تحدده الحكومة الفدرالية بناءً على دخل الأسرة وحجمها. يختلف هذا الخط سنوياً وفقاً لمستوى التضخم والتكاليف المعيشية. على سبيل المثال، في عام 2023، كان خط الفقر السنوي لعائلة مكونة من أربعة أفراد حوالي 30,000 دولار.

تُصنف الأسر أو الأفراد الذين يقل دخلهم عن هذا الحد على أنهم يعيشون في حالة فقر رسمي، بينما توجد فئات أخرى تعيش في “فقر نسبي” أو تحت “خط الفقر الموسع” والذي يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى مثل تكاليف الإسكان والتعليم والرعاية الصحية.

إحصائيات عدد الفقراء في الولايات المتحدة

تشير البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الأمريكي (U.S. Census Bureau) إلى أن نسبة الفقر بين السكان تتراوح بين 11% إلى 13% خلال السنوات الأخيرة. في عام 2023، بلغ عدد الأمريكيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي حوالي 37 مليون نسمة، وهو ما يعادل تقريباً 11.5% من إجمالي السكان البالغ عددهم حوالي 330 مليون نسمة.

تطور أعداد الفقراء في العقود الأخيرة

شهدت الولايات المتحدة تذبذباً في معدلات الفقر عبر العقود الماضية. فبعد موجة تراجع ملحوظة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، عادت معدلات الفقر للارتفاع في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008، واستمرت في التذبذب حتى تفشي جائحة كورونا في 2020، حيث ارتفعت معدلات الفقر بشكل مؤقت نتيجة توقف النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة.

الفئات الأكثر عرضة للفقر في الولايات المتحدة

1. الأطفال

تشكل فئة الأطفال تحت خط الفقر نسبة كبيرة من الفقراء في أمريكا. وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) ومكتب الإحصاء الأمريكي، يعيش حوالي 16% من الأطفال تحت سن 18 في الولايات المتحدة في فقر رسمي، مما يعرضهم لخطر محدودية الوصول إلى التعليم الجيد، الغذاء الصحي، والرعاية الصحية.

2. كبار السن

تعد نسبة الفقر بين كبار السن أقل نسبياً مقارنة بالأطفال، لكنها ما زالت تمثل تحدياً كبيراً خصوصاً لأولئك الذين يعتمدون على المعاشات التقاعدية الحكومية أو الذين يعانون من أمراض مزمنة تكلفهم مبالغ إضافية.

3. الأقليات العرقية

تشكل الأقليات العرقية مثل الأمريكيين من أصول أفريقية، واللاتينيين، والسكان الأصليين نسب فقر أعلى مقارنةً بالأمريكيين البيض. يعود ذلك إلى عوامل تاريخية واجتماعية مثل التمييز العنصري، التفاوت في فرص التعليم والعمل، والتوزيع غير المتكافئ للثروات.

العوامل المؤثرة في زيادة الفقر في الولايات المتحدة

1. البطالة والتوظيف غير المستقر

تؤدي فترات البطالة وعدم الاستقرار في سوق العمل إلى تزايد أعداد الفقراء، خاصة في الصناعات التي تعتمد على العمالة المؤقتة أو ذات الأجور المنخفضة. كما أن التحول التكنولوجي أدى إلى إلغاء بعض الوظائف التقليدية، ما أثر على بعض الفئات العاملة.

2. ارتفاع تكاليف المعيشة

شهدت الولايات المتحدة ارتفاعاً مستمراً في تكاليف الإسكان والرعاية الصحية والتعليم، وهي عوامل تؤثر بشكل مباشر على قدرة الأسر ذات الدخل المحدود على تغطية نفقاتها الأساسية. في العديد من المناطق الحضرية الكبرى، يعتبر إيجار السكن أحد أكبر الأعباء المالية على الأسر.

3. عدم المساواة الاقتصادية

تتميز الولايات المتحدة بفجوة كبيرة في توزيع الدخل والثروة، حيث يمتلك جزء صغير من السكان نسبة كبيرة من الثروة، بينما تعاني الطبقات الوسطى والفقيرة من تراجع في فرص التقدم الاقتصادي. تؤدي هذه الفجوة إلى صعوبة تحسن وضع الفقراء اقتصادياً.

4. التعليم

قلة فرص الحصول على تعليم عالي الجودة تشكل حاجزاً أمام الفقراء في تحسين دخلهم ومستوى معيشتهم. ترتبط مستويات التعليم بشكل مباشر بفرص العمل والدخل، مما يجعل الاستثمار في التعليم من أهم الحلول لتقليل الفقر.

السياسات الحكومية لمكافحة الفقر

تتبنى الولايات المتحدة عدة برامج وسياسات تهدف إلى الحد من الفقر وتحسين ظروف الفئات الفقيرة:

• برنامج المساعدة الغذائية (SNAP): يقدم دعماً مالياً لشراء الغذاء للأسر ذات الدخل المحدود.

• برنامج الإسكان المدعوم: يهدف إلى توفير سكن ميسر للفقراء في المناطق الحضرية.

• الرعاية الصحية المدعومة (Medicaid): يساعد في تغطية تكاليف الرعاية الصحية للأسر ذات الدخل المنخفض.

• برامج التأهيل المهني والتدريب: تعمل على تحسين فرص العمالة من خلال تدريب العمال على مهارات جديدة.

على الرغم من هذه الجهود، يبقى التحدي في كيفية توسيع نطاق الفعالية وضمان وصول هذه البرامج إلى جميع المحتاجين.

الآثار الاجتماعية للفقر في الولايات المتحدة

لا يقتصر تأثير الفقر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يمتد ليشمل الجوانب الاجتماعية والنفسية والصحية:

• الصحة: الفقراء يعانون من معدلات أعلى من الأمراض المزمنة وسوء التغذية.

• التعليم: ضعف الموارد التعليمية يحد من فرص النجاح الأكاديمي للأطفال الفقراء.

• الجريمة: ترتبط مستويات الفقر المرتفعة بزيادة معدلات الجريمة والعنف في بعض المجتمعات.

• التمييز الاجتماعي: يواجه الفقراء تهميشاً مجتمعياً وشعوراً بعدم المساواة مما ينعكس على الاندماج الاجتماعي.

مقارنة إقليمية للفقر داخل الولايات المتحدة

تختلف معدلات الفقر بشكل كبير بين الولايات والمناطق داخل الولايات المتحدة. على سبيل المثال:

تعكس هذه الفروقات التباين الكبير في الفرص الاقتصادية وتكاليف المعيشة بين المناطق الحضرية والريفية، وبين الولايات المختلفة.

التحديات المستقبلية وفرص الحلول

يواجه ملف الفقر في الولايات المتحدة عدة تحديات معقدة من بينها:

• تغير طبيعة سوق العمل: التحولات التكنولوجية تتطلب مهارات جديدة، ويجب أن تستثمر السياسات في إعادة تدريب العمال.

• التضخم وارتفاع تكاليف الحياة: يؤدي إلى مزيد من الضغط على الأسر ذات الدخل المحدود.

• التحولات الديموغرافية: زيادة أعداد كبار السن والفئات الضعيفة تستدعي خطط دعم مخصصة.

أما من جهة الحلول، فيمكن التركيز على:

• تعزيز التعليم والتدريب المهني.

• إصلاح نظم الدعم الاجتماعي لتكون أكثر شمولية وفعالية.

• تحسين فرص السكن الميسر.

• دعم الصحة النفسية والجسدية للفقراء من خلال خدمات ميسرة.

خاتمة

عدد الفقراء في الولايات المتحدة يشكل تحدياً اقتصادياً واجتماعياً يتطلب سياسات متكاملة ومستمرة لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. رغم القوة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي، لا تزال ملايين الأسر تكافح لتأمين حياة كريمة، مما يستدعي تكاتف الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لإحداث تغيير حقيقي في حياة الفقراء وضمان فرص متساوية للجميع.

المصادر والمراجع

• U.S. Census Bureau, Poverty Data and Reports, 2023.

• Economic Policy Institute, “The State of Working America,” 2023.